في اليوم الثاني من شهر تشرين الأول / أكتوبر من عام 2018، وفي الساعة الواحدة و14 دقيقة بعد الظهر، دخل خاشقجي مبنى يقع في حي ليفينت في اسطنبول.
وكان خاشقجي، الصحفي البارز والمنتقد لمحمد بن سلمان يقصد القنصلية السعودية للحصول على وثائق تثبت طلاقه من زوجته الأولى.
ولكن ما أن دخل مبنى القنصلية إلا وهجم عليه فريق أمني كان قد أرسل من الرياض، وقتله أفراد هذا الفريق وقطّعوا جثته وتخلصوا من أشلائه التي لم يعثر عليها إلى الآن.
قتل الآلاف في الحرب التي دمرت اليمن، الكثير منهم جراء الغارات الجوية التي قادها الطيران السعودي. واختفى المئات من السعوديين المنتقدين لسياسات محمد بن سلمان في غياهب السجون، ولكن جريمة اغتيال خاشقجي هي التي غيّرت موقف الكثيرين في العالم تجاه ولي العهد السعودي.
ورغم النفي السعودي الرسمي، تعتقد وكالات استخبارية غربية أنه من المرجح أن محمد بن سلمان كان يعلم مسبقا بعملية إسكات صوت خاشقجي. وتقول تقارير إن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تعتقد أن محمد بن سلمان أمر فعليا باغتيال الصحفي .
في مقابلة صحفية نشرت في 29 أيلول / سبتمر من هذا العام مع برنامج "60 دقيقة" الذي تبثه قناة CBS، قال محمد بن سلمان إنه "يتحمل المسؤولية الكاملة" عن مقتل خاشقجي". وكان بن سلمان قد قال في مقابلة صحفية سابقة أجراها مع شبكة PBS الأمريكية إن عملية قتل خاشقجي "جرت تحت سلطته" ولكن هذه الأقوال لا ترقى إلى تحمل المسؤولية المباشرة، وهو أمر ينفيه محمد بن سلمان وحكومته.
من العناصر الرئيسية في هذه الجريمة البشعة وتبعاتها واحد من أقرب المقربين لمحمد بن سلمان، وهو مستشاره السابق، والضابط في القوة الجوية، سعود القحطاني.
كان القحطاني هذا، قبل تنحيته بعد حادثة قتل خاشقجي، بأمر من الملك سلمان ، حافظ سر ولي العهد غير الرسمي في البلاط الملكي السعودي.
يقال إن القحطاني كان يشرف على استراتيجية الكترونية تراقب السعوديين داخل البلاد وخارجها باستخدام برامج للتجسس الالكتروني استقدمت من الخارج. وحسب بعض التقارير، حوّلت هذه البرامج هواتف المواطنين إلى اجهزة تجسس دون علمهم.
وتعرض كل الذين كانوا ينتقدون محمد سلمان وسياساته إلى سيل من التهديدات والهجمات الالكترونية عبر منابر التواصل الاجتماعي. وتمكن القحطاني بفضل متابعيه الذين يناهز عددهم المليون - ومن خلال "الذباب الالكتروني" الذي كان يتحكم به - من مضايقة وتهديد من يعتبرون من أعداء النظام الحاكم.
ففي صيف 2017، الشهر نفسه الذي أصبح فيه محمد بن سلمان وليا للعهد، وعندما انطلقت حملة لسجن المدونين ودعاة الديمقراطية وناشطي حقوق الانسان في السعودية، قرر خاشقجي ترك السعودية والتوجه إلى الولايات المتحدة.
كان خاشقجي يبلغ من العمر آنذاك 59 عاما، ويعتبر نفسه سعوديا وطنيا. وسبق له أن عمل مستشارا اعلاميا للسفير السعودي في لندن في أوائل الألفية الثانية، وأتذكر أني كنت أتناول القهوة معه في تلك الأيام.
ولكن بعد انتقاله إلى الولايات المتحدة، بدأ خاشقجي بنشر مقالات في صحيفة الواشنطن بوست ينتقد فيها محمد بن سلمان واسلوبه التسلطي في الحكم. ويقال إن هذه المقالات أغضبت محمد بن سلمان.
بدأ خاشقجي بتسلم مكالمات هاتفية من الرياض تحظه على العودة إلى السعودية، ووعده المهاتفون بأنه سيكون بأمان وأنه سيكلف بوظيفة حكومية.
ولكن خاشقجي لم يثق بهذه التأكيدات، فقد قال لبضعة من أصدقائه إن فريق القحطاني قد تسللوا إلى حسابات بريده الألكتروني وأطلعوا على محادثاته مع شخصيات معارضة أخرى.
كان خاشقجي وغيره من المعارضين ينوون إطلاق حركة تطالب بحرية التعبير في العالم العربي. وكان له 1,6 مليون متابع في تويتر، كما كان يعد واحدا من أبرز الصحفيين في الشرق الأوسط.
ولذا كان ينظر إلى خاشقجي - من لدن محمد بن سلمان وأعوانه المقربين - على أنه يشكل تهديدا ماثلا، ولو أن ولي العهد نفى ذلك في المقابلة التي أجرتها معه شبكة CBS.
شهد التاريخ العديد من الحوادث التي قامت بها القيادة السعودية باختطاف "سعوديين معارضين" ومنهم امراء، واعادتهم إلى الرياض "من أجل تقويمهم" حسبما يصفه معلقون. ولكن لم يسبق أن اغتال السعوديون أحدا من هؤلاء. ولذا فإن اقتراف جريمة اغتيال في مدينة أجنبية يعد تحولا جوهريا في الأساليب المتبعة.
تحولت حادثة قتل خاشقجي بسرعة إلى فضيحة على المستوى الدولي.
وبعد تبرير أولي تعوزه اللباقة حول ما قد حدث لخاشقجي في مبنى القنصلية السعودية في اسطنبول، بذلت السلطات السعودية جهودا حثيثة لابعاد محمد بن سلمان عن الفضيحة.
فقد قال السعوديون إن عملية الإغتيال تمت دون علم السلطات من قبل أفراد تصرفوا على هواهم دون الرجوع إلى الأوامر التي صدرت لهم. ولكن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وغيرها من أجهزة الاستخبارات الغربية، استمعت إلى الأشرطة التي سجلها جهاز المخابرات التركي سرا لعملية الاغتيال من داخل القنصلية السعودية في اسطنبول.
وعندما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على 17 شخصا يشتبه في تورطهم في قتل خاشقجي، كان سعود القحطاني على رأس القائمة.
ولكن، ولحد الآن، لا يوجد دليل قاطع يربط محمد بن سلمان بجريمة قتل خاشقجي.
إلا أن تقييما سريا أعدته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية حصلت عليه صحيفة وول ستريت جورنال كشف عن وجود 11 رسالة نصية على الأقل بعث بها محمد بن سلمان إلى القحطاني قبل وخلال وبعد عملية اغتيال خاشقجي.
ولنكن واضحين. ففي بلدان الخليج العربية التي أقمت وعملت فيها لعدة سنوات، لا وجود لشيء اسمه "عمليات خارج سيطرة الدولة". هذا أمر لا يحصل أبدا. ففي الخليج، لا تتم أي عملية دون موافقة المراجع العليا.
في شهر آب / أغسطس من العام الماضي، وقبل اغتيال خاشقجي، نشر سعود القحطاني تغريدة قال فيها "أتعتقدون أني أتخذ قرارات دون توجيه؟ أنا خادم الملك وولي عهده ومنفذ أوامرهما".
لم يقل أحد قط إن الملك سلمان ضالع في عملية اغتيال خاشقجي، ولكن يبدو بما لا يدع مجالا للشك أن المؤامرة خطط لها في الحلقة الضيقة المحيطة بابنه ولي العهد. وقال ضابط استخبارات بريطاني سابق "إنه من غير المعقول أن يكون محمد بن سلمان جاهلا بها".
كان اغتيال خاشقجي وصمة عار على بلدنا وحكومتنا وشعبنا
الأمير خالد بن بندر آل سعود، السفير السعودي لدى بريطانيا
إذن أين سعود القحطاني؟ ولِمَ لم تتم احالته إلى القضاء؟
وجهت هذا السؤال مؤخرا إلى الأمير خالد بن بندر آل سعود، السفير السعودي الجديد لدى المملكة المتحدة. وأكد لي السفير أن القحطاني قد أزيح من منصبه ويخضع الآن للتحقيق. وأذا ثبت تورطه في عملية اغتيال خاشقجي، فستتم مقاضاته، حسب ما قال لي السفير. ولكن ثمة تقارير من الرياض تقول إن القحطاني متوار عن الأنظار ولكن لم يعتقل من قبل السلطات.
وقال لي أحد الخليجيين العليمين بدائرة محمد بن سلمان الضيقة "إنه لا يمثل أمام المحكمة، ولكنه ما زال يعمل في قضايا الأمن الألكتروني وغيره من الأمور. إنه متوار عن الأنظار، ولكنهم ما زالوا يستفيدون من خبراته".
وذهب هذا الخبير إلى أبعد من ذلك، إذ قال إنه بالنسبة للحاشية المحيطة بمحمد بن سلمان، ينظر إلى القحطاني بوصفه "شخصا يضحي من أجل الفريق". وقال "نعم، عملية اسطنبول لم تجر كما ينبغي، ولكنه (القحطاني) إنما كان ينفذ الأوامر".
أحال السعوديون 11 شخصا إلى القضاء بتهمة التورط في قتل جمال خاشقجي. وبدأت محاكمتهم في كانون الثاني / يناير الماضي، ولكن، وبعد مضي تسعة شهور، لم نسمع بأي ادانات أو عقوبات أو حتى أي اشارة إلى موعد انتهاء المحاكمة.
يعد النظام القضائي السعودي مبهما في أحسن الأحوال، إذ تخضع الأحكام عادة إلى أهواء القضاة عوضا عن خضوعها لأي نظام قضائي رسمي.
كان أحد الأشخاص الذين أشارت إليهم السلطات السعودية بأصابع الاتهام العميد أحمد العسيري، نائب رئيس المخابرات والناطق السابق باسم الحملة الجوية السعودية المثيرة للغط في اليمن.
سبق لي أن التقيت بالعسيري مرات عديدة في الرياض، وكان الانطباع الذي خرجت به عنه أنه ليس من الرجال الذين يقدمون على خطوة ما دون الحصول على إذن من مراجع عليا.
ومهما كانت نتيجة هذه المحاكمة المبهمة، يبقى لدينا أمر واحد واضح - ألا وهو أن عملية قتل جمال خاشقجي أحدثت ضررا كبيرا لسمعة السعودية على النطاق الدولي.
قال لي السفير السعودي لدى بريطانيا في أيلول / سبتمبر الماضي، بصراحة غير متوقعة لعضو بارز في الأسرة المالكة، "دعني أكون واضحا، كانت جريمة قتل خاشقجي وصمة عار لبلدنا ولحكومتنا ولشعبنا. أتمنى أن هذه الجريمة لم تحصل أصلا."
في الحقيقة، لم تتمتع السعودية، وهي بلد قبلي محافظ، بنفس المباهج والمتع التي كانت تتمتع بها حواضر أخرى في المنطقة تتميز بالتنوع كالقاهرة وبغداد. ولكن مع ذلك كان كلام محمد بن سلمان هو الكلام الذي كان البيت الأبيض الأمريكي تواقا لسماعه.
ففي عام 2017، كانت الأواصر قد توطدت بين واشنطن وولي العهد الجديد. فقد اختار الرئيس دونالد ترامب الرياض كأول عاصمة يزورها بعد توليه منصبه في أيار / مايو 2017، كما كوّن صهره جاريد كوشنر علاقة عمل حميمة مع محمد بن سلمان.
في سعيه لاعتماد "نموذج معتدل" للاسلام، أصدر محمد بن سلمان مراسيم تسمح باقامة الحفلات الموسيقية وحتى باقامة قداس قبطي مسيحي.
نتيجة لتلك الخطوات، ارتفعت شعبية محمد بن سلمان في السعودية، وخصوصا في أوساط الشباب الذين سئموا ان يحكمهم رجال مسنون يزيدونهم عمرا بأكثر من نصف قرن. لم يبلغ محمد بن السلمان من العمر إلا 34 عاما، ولذا اصبح أول زعيم يمكن للجيل الشاب أن يتواصل ويتفاعل معه.
يقول رجل أعمال خليجي لا يريد أن تنشر هويته "إن محمد بن سلمان يحب تناول الوجبات الجاهزة كالـ "هوت دوغ"، وشرب كميات كبيرة من الكوكا كولا الخالية من السكر. ويقال إنه نشأ على ممارسة لعبة Call of Duty وإنه من المتابعين الكبار للتقنيات الحديثة.
وفي منتدى استثماري عقد في الرياض في تشرين الثاني / نوفمبر 2018، كانت الشابات السعوديات يهرعن لالتقاط صور مع محمد بن سلمان، الذي كان يوافق على طلباتهن بكل ترحاب.
يقول مالك دحلان، المحامي الدولي، إن محمد بن سلمان "هو الزعيم الذي طال انتظاره للسعودية، فلم ير السعوديون أي زعيم يتمتع بالكاريزما التي يتمتع بها منذ جده الملك عبدالعزيز."
يقول السير وليام باتي، الذي كان سفير بريطانيا لدى السعودية بين عامي 2006 و2010، "إن انطباعي هو أن معظم السعوديين، ولاسيما الشباب منهم، يؤيدون ولي العهد والطريق الذي اختطه".
وفي إشارة إلى استحواذ محمد بن سلمان على عدد من السلطات، يضيف باتي أن السعوديين "تعوّدوا تقليديا على رؤية السلطات موزعة على عدة مراجع، ولكنهم يتفهمون بأن التغييرات الكبيرة تحتاج إلى اتخاذ اجراءات حازمة".
ويقول دبلوماسي بريطاني آخر التقى بمحمد بن سلمان في عدة مناسبات، ولكنه لا يريد لاسمه أن ينشر حاله حال الكثير من الدبلوماسيين:
"لمحمد بن سلمان اعتقاد استثنائي بقدراته. فهو يشبه الوهج الشمسي، إذ ينفجر آنيا بالأفكار والطاقة. ولكنه قد يكون يتمتع بثقة زائدة في النفس، وفي ذلك شيء من عدم الاحتراف".
ولكن هناك في شخصية محمد بن سلمان مسحة أكثر خبثا.